"أحداث الثورة السودانية"
قبل ستة أشهر، ثار الشعب السوداني ضد ديكتاتورية عمر البشير التي استمرت زهاء ثلاثين عاما. ويحكي فيلمي بعنوان "السودان: الحديد والنار" قصة ما حدث بعد سقوط البشير.
كانت الخرطوم تفيض بالأمل عندما وصلت. المتظاهرون يطالبون الجيش بتسليم السلطة. ثمة أجواء احتفالية، والهواء معبق بأنغام الموسيقى. وقد أرسلوا الجنود لكسر الاعتصام لكن المتظاهرين أظهروا ثباتا.لديّ عشرة أيام فقط في البلاد. أحتاج مادة تحكي قصة الثورة. خطتي بالأساس هي تغطية إذاعة صوت الثورة السودانية، تلك المحطة التي انطلقت في وقت سابق من العام الجاري وباتت صوتا للمتظاهرين. حتى التقيت الطبيبة "نمارق".
نمارق طبيبة، وهي أيضا متظاهرة لكن والديها لا يعرفان ذلك. عندما اكتشفتُ أنها من عطبرة أدركت أنها الشخصية الرئيسية التي أبحث عنها. قلت في نفسي: "ستكون قصة عظيمة لو أننا استطعنا السفر إلى عطبرة والتقينا عائلتها".
وتُعرف عطبرة بأنها مهد الثورة. منها بدأت موجة التظاهرات في ديسمبر/كانون الأول، وفاضت حتى أطاحت في أبريل/نيسان بالبشير.
لا تسير الأمور العملية بالسلاسة المرجوّة. العمل في العاصمة أسهل بكثير منه في الأقاليم. لن تصرح لنا الحكومة بتصوير فيلم في عطبرة. يجب الحصول على تصريح محلي. كم هو مثير أن نكون الفريق الصحفي الغربي الوحيد في المنطقة، لكنها إثارة تكتنفها الخطورة.
وتقع عطبرة على مسافة 350 كم شمال شرقي الخرطوم. وحتى نتفادى الطريق الرئيسي، وما عليه من نقاط تفتيش، تستغرق منا الرحلة ثماني ساعات. واتخذنا تدابير احترازية أخرى ليس من الحكمة الكشف عنها. لنقُل فقط إن الصحفيين الذين يغامرون بالعمل خارج العاصمة الخرطوم يجب أن يلزموا جانب الحذر.
تفيض عائلة نمارق بالكرم وحسن الضيافة، شيمة الكثير من المحليين. إنها المرة الأولى التي يرى فيها الناس هنا صحفيين غربيين معهم كاميرا للتصوير. لكنني شعرت بالخطر في المستشفى. طلب مني متظاهر كان قد فقد أخيه في التظاهرات أن أصور مادة فيلمية هناك، وقد كان أن ذهبنا وبدأنا التصوير.
برز لنا اثنان من رجال الشرطة، أحدهما أمسك بي. هذه الواقعة حدثت قبل لحظات من حديث مع نمارق، كنت أقول لها إنه لا مجال لأن تعود البلاد لإراقة الدم. الآن أدرك أنني كنت مخطئا. ها أنا أرى كيف أن العنف متغلغل وكيف يستسهل رجال الشرطة والجيش اللجوء للعنف. وكان من حسن حظي أن المتظاهرين ساعدوني على الخروج من المأزق.
أصعب لحظة اعترضت طريق الفيلم تمثلت في مشهد كانت فيه نمارق تشارك في مظاهرة في السوق. لم تكن قد أخبرت عائلتها بعد أنها تشارك في المظاهرات. وفجأة وبدون سابق علمها، حضر أبوها ورآها.
لم تكن لديّ فكرة عما يمكن أن يحدث، لكنه في الحقيقة كان هادئا. أما نمارق فقد بُهتت عندما رأته ونظر هو إلى حذائها. كان مشهدا كاشفا. وكنا محظوظين أنْ سجلنا كل ذلك في وقت قصير لم يتجاوز ثلاث أو أربع دقائق. ثم فجأة لم يعد الأمر آمنا. معي شاب يؤمن ظهري وقد صاح بي لكي نبتعد. لقد رأى شيئا. هرعنا إلى السيارة الـ نيسان وابتعدنا بها. هكذا تسير الأمور. أصور الفيلم وحدي بمعاونة فريق صغير من المحليين. عليك أن تستمع لما يقوله الناس من حولك.
كان مشهد الذروة في زيارة عطبرة عندما جلست نمارق مع والديها في جلسة عائلية. وبينما كانوا يشربون الشاي تعترف نمارق بأنها تشارك في المظاهرات، وأنها ترغب في العودة إلى العاصمة والانضمام مرة أخرى إلى الاعتصام. الأمر الذي أقلق والديها. وكانت الأسرة فقدت شقيق نمارق قبل عام. وكانت الأم، وليس الأب، هي التي أصرت على بقائها. كان مشهدا مشحونا. ثمة امرأتان قويتان في مواجهة. في النهاية تنهض نمارق بصينية الشاي. وتقرر أمرها. كان عليها أن تختار بين البلاد والعائلة. أمر بالغ الصعوبة. وكان أنْ وافقت نمارق على البقاء في عطبرة.
إن دور المرأة في السودان بالغ الأهمية. إنهم يسمونها "كنداكة". وهو اسم ملكة من عهد مملكة كوش القديمة. واستُخدم اسم كنداكة في المظاهرات الأخيرة في وصف العديد من السيدات اللائي شاركن بقوة مؤثرة في التظاهرات. وها قد رأينا نموذجا في عائلة نمارق.
وأنا أغادر السودان، طالعت في وجوه الناس مزيجا من الترقب والشجاعة والتحدي. رأيت في عيونهم أملا ولكنه منزوع الثقة. ولم يكن هذا غريبا بالنظر إلى ما حدث بعد ذلك بأسابيع قليلة.
وفي الثالث من يونيو/حزيران، شن الجيش السوداني حملة قمعية على المتظاهرين في الخرطوم. وسقط ما لا يقل عن 120 متظاهرا قتلى وتعرض آخرون للاغتصاب. كان يمكن أن تكون نمارق بين هؤلاء لو أنها وجدت طريقها إلى هناك. عزائي أنها آمنة وبخير. مات حلمها بالعودة ومتابعة المشاركة في التظاهرات. لكنها استمرت في التظاهر في عطبرة. ولا تزال حية، ومتحدية ومؤمنة بما تفعل.