"لا يمكنني أن أنجبَ أولاداً في
سوريا، ولا أتخيّل فكرة أن يبدأ ابني بإحصاء خسائره من عمرِ السّادسة".
"إنجاب الأطفال هنا يعني احتمال الخوف والندم من أنني خلقت روحاً جديدة في
هذا المكان غير المستقر". "نعم أخاف من تأسيس عائلة هنا، فلا أريد أولاداً
يعيشون حرباً مثلنا".
هذه مقاطع من أحاديث لم يعد غريباً اليوم
تداولها على أرض الواقع أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بين سوريين
وسوريات أطلقت الحرب الدائرة في بلادهم منذ 8 سنوات العنان لأفكار لم
يختبروها من قبل، فبات بعضهم يتساءل حول جدوى تأسيس أسرة أو إمكانية إنجاب
أطفال في مكان لا يزال إحصاء الخسائر البشرية والمادية فيه مستمر حتى
اليوم.
وقد لا يبدو الحديث عن ذلك بشكل علني سهلاً على
الدوام في المجتمع السوري حيث تحتل الأسرة مكانة غاية في الأهمية، وتبقى
الوظيفة الإنجابية للمرأة من أهم الأدوار المتوقعة منها، لكن، وببعض البحث
والسؤال، لا يصعب العثور على فتيات ونساء متزوجات يتشاركن بتلك المخاوف،
ويعتقدن بأنه لا بأس من رفع الصوت بشأنها رويداً رويداً: نعم المجتمع
يريدنا زوجات وأمهات، لكننا نخاف ذلك بل ونرفضه بعد أن عشنا كل هذه الحرب
القاسية.
داخل أحد المقاهي في العاصمة السورية دمشق التقيتُ بنهى ابراهيم، وهي مصورة فوتوغرافية لها من العمر 31
عاماً. حدثتني عن مخاوفها هي وزوجها من إنجاب طفل في سوريا، وهي مخاوف
كانا يتشاركانها منذ فترة الخطوبة وحتى بعد استمرار عام على زواجهما اليوم.
ترتبط هذه المخاوف، كما تقول نهى، بالظرف العام الذي تعيشه سوريا،
وقلقها الدائم من المستقبل فيها، ومن قدرتها على تأمين حياة كريمة ومستوى
تعليمي جيد لطفلها المحتمل مع تردي الأوضاع الاقتصادية وانهيار قيمة الليرة
السورية، وأيضاً على تربيته وزرع القيم فيه ضمن "مجتمع منهار وتطرّف يملأ
الأرجاء"، وفق تعبيرها.
أضافت نهى في حديثها بأنها لا ترفض فكرة
الإنجاب بشكل مطلق، "لكنني لن أقدم على ذلك هنا، ولن أخلق طفلاً وأربيه إلا
خارج هذه البقعة من العالم. هو الحل الأمثل بالنسبة لي ولزوجي".
هذه
البقعة الجغرافية، أي الوطن، تثير كذلك الكثير من الأسئلة لدى نورا علي،
حول إمكانية إنجاب طفل في بلد تراه غير مستقر ومجتمع غير متوازن سواء على
الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو التربوي، والأهم ربما هي الحرب التي
عاشتها وتخشى أن تمرّ على طفلها المحتمل من جديد وبنفس فصول القسوة
والبشاعة.
أسباب أخرى تدفع الفتاة الثلاثينية والتي تعمل كباحثة
اجتماعية في دمشق للتفكير بهذه الطريقة، وتتمثل في ارتفاع تكاليف المعيشة،
وهو ما يقلقها بشأن تأمين تعليم جيد لأبنائها المستقبليين مع عدم جودة
التعليم الحكومي المجاني وارتفاع أسعار التعليم الخاص بشكل يفوق قدرتها.
وتقول "أعتقد بأنني قد أضطر للمفاضلة بين منح أولادي حياة بمستوى رفاهية
معقول، وبين متابعة مسيرتي المهنية والعلمية كما أحب، وهي تستلزم مني أيضاً
جهداً ومالاً كبيرين".
تذهب رهف اسطنبلي (23 عاماً) بأفكارها أبعد من ذلك، فتتحدث لي عبر تطبيق
مسنجر عن اعتقادها بأنها إن أنجبت طفلاً في سوريا اليوم، فلن يكون قادراً
على مسامحتها عندما يكبر.
ولذلك أسباب عديدة كما تقول الفتاة التي
تعيش بمدينة اللاذقية وتعمل بمجال التسويق مع مبادرة "الباحثون السوريون"،
وهي أسباب شرحتها ضمن تدوينة صغيرة كتبتها على صفحتها على موقع فيسبوك منذ
حوالي ثلاثة أسابيع، وذكرت فيها العديد من مصاعب الحياة في سوريا، ومنها
حملها جواز السفر السوري "الذي لا يكفي سوى للسفر بين المحافظات داخل
البلاد"، في إشارة منها لتراجع مرتبته عالمياً بعد سنوات الحرب، حيث بات
السوريون مضطرين للحصول على تأشيرات دخول لمعظم بلدان العالم، وهو إجراء
صعب للغاية ومستحيل في كثير من الحالات.
تتحدث رهف أيضاً عن تعقيدات
الحياة اليوم في سوريا خاصة بما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية المتردية التي
تُجبر الشباب على الوصول لسن الثلاثين وهم يبحثون عن فرصة عمل لائقة. وفق
آخر الأرقام الرسمية الصادرة منذ حوالي عامين، تلامس نسبة البطالة حدود
الأربعين بالمئة من القوة العاملة.
بذلك، ترى الفتاة بأنها لا تريد
المساهمة بأن يعيش أطفال سوريون جدد، دون ذنب، نفس التجارب القاسية والظروف
القاهرة التي عاشها جيل الحرب الذي تنتمي إليه.
ولا يعني ذلك
بالنسبة لرهف كما قالت لي انتفاء "غريزة الأمومة" لديها، لكن الحرب على ما
يبدو جعلت الفتاة، كما العديد من الفتيات والنساء اللواتي أقابلهنّ بشكل
يومي، تعيد التفكير ألف مرة بمفهوم تلك الغريزة ومكانها في حياتها وسط ضجيج
الحرب والدمار.
في اليوم الذي تحدثتُ فيه إلى نورا علي، قالت إن عمرها 31 سنة و12 يوم،
وهو عمر بدأ يدفع عائلتها للإلحاح على أن تتزوج وتكوّن أسرة بغض النظر عن
قلقها الشخصي من الفكرة.
"للأسف مجتمعنا لا يعترف بأحلام وطموحات
الفتاة، ويرى الزواج فرصة وليس حياة مشتركة"، تقول، ولا تنفي بأن تضطر في
نهاية المطاف لمواجهة كل مخاوفها، والزواج وإنجاب الأطفال والاستمرار في
الحياة داخل البلاد.
وبالنسبة لنهى ابراهيم وزوجها، تتباين آراء
المجتمع حولهما بما يخص خيارهما عدم الإنجاب حالياً، فعائلتاهما تحاولان
إقناعهما بالإقدام على هذه الخطوة في أقرب وقت، وبعض الأفراد في محيطهما
يدعمانهما في حين يعارضهما آخرون ممن يعتبرون الأسرة "سنّة الحياة".
"بكل
الأحوال نرفض أي تدخل فهذا أمر يتعلق بنا وحدنا، ونعي بنفس الوقت كون هذه
الفكرة غير سائدة بعد على نطاق واسع في مجتمعنا السوري الذي لا يعترف بفكرة
عدم الإنجاب على الإطلاق مهما كانت الظروف"، تضيف نهى، وتستدل على ذلك
باستمرار آلاف العائلات بالإنجاب حتى في أقسى وأخطر أيام الحرب التي عاشتها
معظم أرجاء البلاد.
أما رهف اسطنبلي، والتي ربما لم تصل بعد للسن
الذي تبدأ فيه ضغوط المجتمع باتجاه الزواج وتشكيل الأسرة، فتقول بأنها لن
تكترث كثيراً بآراء من حولها، وقد تفكر يوماً بتبني طفل أو أكثر، كخيار
لرفضها فكرة الإنجاب، وفي الوقت نفسه لمساعدة آلاف الأطفال الذين فقدوا
عائلاتهم ومنازلهم في فترة الحرب.
وهنا يبدو التحدي بالنسبة لها
مضاعفاً مع عدم شيوع فكرة التبني أيضاً في سوريا، لكنها تقول بأنها جاهزة
لمواجهته: "نحتاج لتغيير نظرة المجتمع تجاه الكثير من المفاهيم التي تبدّلت
بالنسبة لنا بعد الحرب. الأمر ليس سهلاً بالطبع، وقناعتي بأفكاري تدفعني
لتبنيها حتى النهاية".